رسالة قطز إلى هولاكو: عندما وقفت مصر أمام الطوفان المغولي
إرهاب المغول وسقوط بغداد
في عام 656هـ (1258م)، وقعت كارثة كبرى في تاريخ الأمة الإسلامية عندما اجتاح المغول بقيادة هولاكو خان مدينة بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، في واحدة من أبشع المجازر التي شهدها التاريخ.
كانت بغداد آنذاك قلب العالم الإسلامي، مدينة زاهرة بالعلم والثقافة والتجارة، وعاصمة الخلافة منذ خمسة قرون. لكن الخليفة العباسي المستعصم بالله لم يكن مستعدًا لمواجهة الطوفان المغولي، فساءت إدارته، وضعفت قواته، ولم يستجب لنصائح مستشاريه بأخذ الحيطة والحذر.
حين اقترب المغول من بغداد، أرسل هولاكو رسالة تهديد إلى الخليفة، مطالبًا إياه بالخضوع والاستسلام، لكنه لم يستجب بالطريقة الصحيحة. وبعد حصار دام أكثر من أسبوعين، تمكن المغول من اختراق أسوار المدينة، وسقطت بغداد في أيديهم يوم 10 صفر 656هـ (13 فبراير 1258م).
بدأت المجزرة الكبرى:
اجتاح المغول المدينة بالحديد والنار، فقتلوا كل من وجدوه أمامهم، شيوخًا وأطفالًا ونساءً.
استمر القتل لمدة أربعين يومًا، حتى قُدّر عدد القتلى بأكثر من مليون شخص، دفنوا في أنهار من الدماء.
اقتحموا المساجد، وهدموا القصور، وأحرقوا الأسواق، وأتلفوا المكتبات.
ألقوا آلاف الكتب النفيسة من بيت الحكمة (أشهر مكتبة علمية في العالم الإسلامي) في نهر دجلة، حتى تحولت مياه النهر إلى اللون الأسود من حبر الكتب التي غرقت فيه.
الخليفة المستعصم بالله نفسه قُتل بطريقة مهينة، إذ داسه المغول بأقدام الخيول حتى فارق الحياة، زاعمين أنهم لا يريدون سفك "دم ملكي" على الأرض.
لم يتركوا عالمًا ولا فقيهًا ولا شاعرًا ولا مؤرخًا إلا قتلوه، ولم يرحموا حتى المرضى في المستشفيات، فذبحوهم جميعًا.
النساء تعرضن للسبي والاغتصاب، وتحولت بغداد إلى مدينة أشباح، لا يسمع فيها إلا صرخات الضحايا، ولا يُرى فيها إلا الدخان واللهب.
هكذا انتهت بغداد، المدينة التي كانت منارة الحضارة الإسلامية، في كارثة لم تشهدها الأمة الإسلامية من قبل. كان سقوطها زلزالًا ضرب قلوب المسلمين، وأدرك الجميع أن المغول وحوشٌ لا تعرف الرحمة، ولا يمكن إيقافهم إلا بالقوة.
---
الطوفان المغولي يتقدم نحو الشام ومصر
بعد أن دمر هولاكو بغداد، واصل زحفه نحو بلاد الشام، فاحتل المدن الواحدة تلو الأخرى، وسقطت حلب ودمشق دون مقاومة كبيرة.
كان الهدف التالي هو مصر، آخر معقل إسلامي قوي، ولو سقطت، لانتهت الأمة الإسلامية تمامًا. لكن في القاهرة، كان هناك رجلٌ مختلف، قائدٌ أدرك أن الاستسلام ليس خيارًا، وأن المواجهة حتمية…
إنه سيف الدين قطز، السلطان الذي لم يرضخ للتهديد، بل أعد العدة، وجهز جيشًا، وكتب ردًا ناريًا على رسالة التهديد المغولية…
---
رسالة قطز إلى هولاكو: التحدي الأخير
حين وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل رسالة تهديد، قرأها السلطان قطز، ثم أمر بقتلهم وعلق رؤوسهم على أبواب القاهرة، ليكون ذلك أول نصر معنوي ضد المغول. ثم أملى على كاتبه رسالة شديدة اللهجة، مليئة بالعزة والكرامة، جاء فيها:
*"قل: اللهم على كل شيء قدير، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي. على كتاب ورد فجرًا عن الحضرة الخاقانية، والسدة السلطانية، نصر الله أسدها، وجعل الصحيح مقبولًا عندها. وبان أنكم مخلوقون من سخطه، مسلطون على من حل عليه غضبه، ولا ترقون لشاكٍ، ولا ترحمون عبرة باكٍ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك من أكبر عيوبكم. فهذه صفات الشياطين، لا صفات السلاطين. كفى بهذه الشهادة لكم واعظًا، وبما وصفتم به أنفسكم ناهيًا وآمرًا.
قل: (يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون). ففي كل كتابٍ لُعنتم، وبكل قبيح وُصفتم، وعلى لسان كل رسولٍ ذكرتم، وعندنا خبركم من حيث خلقتم، وأنتم الكفرة كما زعمتم. ألا لعنة الله على الكافرين.
وقلتم إنّا أظهرنا الفساد، ولا عزّ من أنصار فرعون من تمسك بالفروع ولا يبالي بالأصول، ونحن المؤمنون حقًا، لا يداخلنا عيب، ولا يصدنا غيب، القرآن علينا نزل، وهو رحيم بنا لم يزل، تحققنا تنزيله وعرفنا تأويله، إنما النار لكم خُلقت، ولجلودكم أضرمت. (إذا السماء انفطرت).
ومن أعجب العجب، تهديد الليوث بالرتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع. خيولنا برقية، وسهامنا يمانية، وسيوفنا مضرية، وأكتافها شديدة المضارب، ووصفها في المشارق والمغارب. فرساننا ليوثٌ إذا ركبت، وأفراسنا لواحق إذا طُلبت، سيوفنا قواطع إذا ضُربت، وليوثنا سواحق إذا نزلت. جلودنا دروعنا، وجواشننا صدورنا، لا يصدع قلوبنا شديد، وجمعنا لا يراع بتهديد، بقوة العزيز الحميد، اللطيف، لا يهولنا تخويف، ولا يزعجنا ترجيف.
إن عصيناكم فتلك طاعة، وإن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قُتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة. قلتم: قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالقضاء لا يهوله كثرة الغنم، وكثرة الحطب يكفيه قليل الضرم. أفيكون من الموت فرارنا، وعلى الذل قرارنا؟ ألا ساء ما يحكمون. الفرار من الدنايا لا من المنايا، فهجوم المنية عندنا غاية الأمنية، إن عشنا فسعيدًا، وإن متنا فشهيدًا، (ألا إن حزب الله هم الغالبون).
أبعد أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، تطلبون منا الطاعة؟ لا سمعًا لكم ولا طاعة! تطلبون أن نسلّم إليكم أمرنا؟ قبل أن ينكشف الغطاء، ويدخل علينا منكم الخطاء؟
هذا كلامٌ في نظمه تَرْكيك، وفي سلكه تسليك، ولو كشف الغطاء، ونزل القضاء، لبان من أخطأ! أكفرٌ بعد الإيمان؟ ونقضٌ بعد التبيان؟ قولوا لكاتبكم الذي رصف مقالته، وفخم رسالته: ما قصرتَ بما قصدتَ، وأوجزتَ وبالغتَ، والله ما كان عندنا كتابك إلا كصرير باب، أو طنين ذباب...*
---
ثم كانت معركة عين جالوت…
بعد هذه الرسالة، خرج قطز بجيشه لملاقاة المغول في عين جالوت، وهناك وقعت المعركة الفاصلة يوم 25 رمضان 658هـ، حيث حطم المسلمون أسطورة المغول، وسحقوهم في هزيمة نكراء، وأنقذوا الأمة الإسلامية من الفناء.
لقد كانت رسالة قطز بداية النصر، وكلماته سلاحًا لا يقل قوة عن السيف.
lslamweb1